فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
الرؤية في قوله: {ألم تر} رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب، لأن الحجة بها تقوم، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحيانًا تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه، و{إن} سادت مسد المفعولين الذين للرؤية، هذا مذهب سيبويه لأن {أن} جملة مع ما دخلت عليه، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي {أن} ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} حقًا، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة، وقوله: {ألوانها} يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عددًا، و{جدد} جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولًا، ومنه قول امرىء القيس: الطويل:
كأنّ سراته وحدَّة متنه ** كنائن يحوي فوقهن دليص

وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال: {جدد} في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية، وقرأ الزهري {جَدد} بفتح الجيم، وقوله: {وغرابيب سود} لفظان لمعنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب»، يعني الذي يخضب بالسواد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرًا على هذا النحو، وقوله: {مختلف ألوانه} قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره {والأنعام} خلق {مختلف ألوانه}، {والدواب} يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيهًا منهما، وقوله: {كذلك} يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسنًا، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية، وسببها والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «خشية الله رأس كل حكمة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله»، فهذا هو الكلام المنير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علمًا، وقال مسروق وكفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وقال تعالى: {سيذكر من يخشى} [الأعلى: 1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعلمكم بالله أشدكم له خشية»، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله. وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علمًا وبالاغترار، به جهلًا، وقال مجاهد والشعبي: إنما العالم من يخشى الله، وإنما في هذه الآية تخصيص {العلماء} لا للحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضًا دونه، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة، وإذا قلت إنما الله إله واحد، بان لك فتأمله، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}.
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير هذه آية القراء وهذا على أن {يتلون} يمعنى يقرءون وإن جعلناها بمعنى يتبعون صح معنى الآية، وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، و{كتاب الله} هو القرآن، وإقامة الصلاة إقامتها بجميع شروطها، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر، فالسر من ذلك هو التطوع والعلانية هو المفروض، و{يرجون} جملة في موضع خبر {إن}، و{تبور} معناه تكسد ويتعذر ربحها، ويقال تعوذوا بالله من بوار الأيم، واللام في قوله: {ليوفيهم} متعلقة بفعل مضمر يقتضيه لفظ الآية تقديره وعدهم بأن لا تبور، أو فعلوا ذلك كله، أو أطاعوه ونحو هذا من التقديرات، وقوله: {ويزيدهم من فضله} قالت فرقة: هو تضعيف الحسنات من العشر إلى السبعمائة، وتوفية الأجور على هذا هي المجازاة مقابلة، وقالت فرقة: إن التضعيف داخل في توفيه الأجور، وأما الزيادة من فضله إما النظر إلى وجهه تعالى، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم، كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] و{غفور} معناه متجاوز عن الذنوب ساتر لها، و{شكور} معناه مجاز عن اليسير من الطاعات مقرب لعبده، ثم ثبت تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {والذي أوحينا إليك من الكتاب} الآية، و{مصدقًا} حال مؤكدة، والذي بين يدي القرآن هو التوراة والإنجيل، وقوله تعالى: {إن الله بعباده لخبير بصير}، وعيد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الذين يستغرق جميعَ أوقاتِهم قيامُهم بذكر الله وبحقِّه، وإتيانُهم بأنواع العبادات وصنوف القُرَبِ فَلَهم القَدْرُ الأجَلُّ من التقريب، والنصيبُ الأوفر من الترحيب. وأما الذين أحوالهم بالضدِّ فَمَنَالُهم على العكس. أُولئك هم الأَولياءُ الأعِزَّةُ، وهؤلاء هم الأعداءُ الأذِلَّة.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}.
ما عَرًَّفْنَاك- من اختارنا لك وتخصيصنا إياك، وتقديمنا لك على الكافة- فعلى ما أخبرناك، وأنشدوا:
لا أبتغي بَدَلًا سواكِ خليلةً... فَثِقِي بقولي والكِرَامُ ثِقَاتُ. اهـ.

.تفسير الآيات (32- 35):

قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان معنى الوصفين: فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلًا للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم، قال عطفًا على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره مشيرًا بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم، صارفًا القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء الحال لها في نزع شيء من قوم وإثباته لآخرين: {ثم أورثنا} أي ملكنا بعظمتنا ملكًا تامًا وأعطينا عطاء لا رجوع فيه، وعبر في غير هذه الأمة {ورثوا الكتاب} [الأعراف: 169] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك: وأورثناكه ثم أورثناه، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهًا على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلامًا بأن من في {أوحينا إليك من} للبيان فقال: {الكتاب} أي القرآن باتفاق المفسرين، قال الأصفهاني- الجامع لكل كتاب أنزلنا، فهو أم لكل خير، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي: إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله {الذين اصطفينا} أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك {من عبادنا} أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم- نقله البغوي عن ابن عباس رضى الله عنهما، ونقل عن ابن جرير أنه قال: الإرث: انتقال شيء من قوم إلى قوم، فثم هنا للترتيب، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءًا ولو أنه الفاتحة فقط، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون.
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم، قال معرفًا له بمقداره مؤنسًا له بما فتح له من أنواره مستجلبًا له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسمًا أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدمًا الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس، ويصدع القلوب خوف البأس: {فمنهم} أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد {ظالم لنفسه} أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر، وهذا القسم هم أكثر الوارث وهم المرجئون لأمر الله.
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال: {ومنهم مقتصد} أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر، وهم الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا {ومنهم سابق بالخيرات} أي العبادات وجميع أنواع القربات، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قربًا ازداد عملًا، لا يكون سابقًا إلا وهو هكذا، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويؤيد هذا قول الحسن: السابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من رجحت سيئاته.
وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة وليكونوا أقرب إلى الجنات كما قدم الصوامع في سورة الحج لتكون أقرب إلى الهدم وآخر المساجد لتقارب الذكر وقدم في التوبة السابقين عقيب أهل القربات من الإعراب وأخر المرجئين وعقبهم بأهل مسجد الضرار، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيرًا، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله، وهذا على تقدير عود الضمير في {منهم} على {الذين} لا على {العباد} وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم هو التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر- وإن كانت ضعيفة- عن الصلاحية لتقوية ذلك، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وبسنده عن أبي الدرداء رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: «أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة»- ثم قرأ {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن}.
وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلهم من هذه الأمة» وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث عمر رضى الله عنه بغير سند: وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: «كلهم في الجنة».
وروى حديث أبي الدرداء رضى الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد.
وأما على عود الضمير على العباد فقال ابن عباس رضى الله عنهما: السابق المؤمن المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها، وقال قتادة: الظالم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابقون المقربون.
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات، أشار إلى عظمته بقوله: {بإذن الله} أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى، قال الرازي في اللوامع: ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره- انتهى.
ثم زاد عظمة هذا الأمر بيانًا، فقال مؤكدًا تكذيبًا لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه: {ذلك} أي السبق أو إيراث الكتاب {هو} مشيرًا بأداة البعد مخصصًا بضمير الفصل {الفضل الكبير}.
ولما ذكر تعالى أحوالهم، بين جزاءهم ومآلهم، فقال مستأنفًا جوابًا لمن سأل عن ذلك: {جنات} أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل، ويصح كونها بدلًا من الفضل لأنه سببها، فكان كأنه هو الثواب {عدن} أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها {يدخلونها} أي الثلاثة أصناف، ومن دخلها لم يخرج منها لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل {الذين} ومن قال ل {عبادنا} خص الدخول بالمقتصد والسابق- هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم، فإذا دعوا إلى الجنة أبطئوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال: {يحلّون فيها} أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي {من أساور} ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بأفضل ما نعرف من الحلية، فقال مبينًا لنوع الأساور: {من ذهب ولؤلؤًا} ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر، قال معرفًا أنهم حين الدخول يكونون لابسين: {ولباسهم فيها حرير}.
ولما كان المقتصد والسابق يحزنون لكمالهم وشدة شفقتهم على الظالم إذا قوصص، جمع فقال معبرًا بالماضي تحقيقًا له: {وقالوا} أي عند دخولهم: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي الذي لم تمام القدرة {الذي أذهب} أي بدخولنا هذا {عنا الحزن} أي هذا النوع بكماله، فلا نحزن على شيء كان فاتنا، ولا يكون لنا حزن أبدًا لأنا صرنا في دار لا يفوت فيها شيء أصلًا ولا ينفى.
ولما كانوا عالمين بما اجترحوه من الزلات أو الهفوات أو الغفلات التي لولا الكرم لأدتهم إلى النار، عللوا ما صاروا إليه معها بقولهم، مؤكدين إعلامًا بما عندهم من السرور بالعفو عن ذنوبهم، وأن ما أكدوه حقيق بأن يتغالى في تأكيده لما رأوا من صحته وجنوا من حلو ثمرته: {إن ربنا} أي المحسن إلينا مع إساءتنا {لغفور} أي محاء للذنوب عينًا وأثرًا للصنفين الأولين {شكور} أي على ما وهبه للعبد من حسن طاعته ووفقه له من الأعمال الحسنة فجعله به سابقًا، ثم وصفوه بما هو شكر له فقالوا: {الذي أحلنا دار المقامة} أي الإقامة ومكانها وزمانها التي لا يريد النازل بها على كثرة النازلين بها- ارتحالًا منها، ولا يراد به ذلك، ولا شيء فيها يزول فيؤسف عليه.
وكان المالك المطلق لا يجب عليه شيء ولا استحقاق لمملوكه عليه بوجه قال: {من فضله} أي بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت منًّا منه سبحانه، لو لم يبعثنا عليها وييسرها لنا لما كانت.
ولما تذكروا ما شاهدوه في عرصات القيامة من تلك الكروب والأهوال، والأنكاد والأثقال، التي أشار إليها قوله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الآية، استأنفوا قولهم في وصف دار القرار: {لا يمسنا} أي في وقت من الأوقات {فيها نصيب} أي نصب بدن ولا وجع ولا شيء {ولا يمسنا فيها لغوب} أي كلال وتعب وإعياء وفتور نفس من شيء من الأشياء، قال أبو حيان: هو لازم من تعب البدن.
فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها:
علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء

. اهـ.